الأدب الإسلامي

 

الإنسان مرتبط بالزمان

 (1/2)

 

بقلم : الأديب الإسلامي العربي الكبير

معالي الدكتور الشيخ عبد العزيز عبد اللہ الخويطر

الرياض ، المملكة العربية السعودية

  

 

  

 

 

        الإنسان مرتبط بالزمان ، يسير معه في كل لحظة من حياته ، صغيرًا أو كبيرًا ، يقظاً أو نائمًا، عاملاً أو بدون عمل ، الزمن محسوب من حياته، وحياته محسوبة من الزمن ، اقترانه بالزمن لا ينفك منذ أن يولد حتى يموت ، بل حتى قبل أن يولد وهو مستكِنّ في رحم أمه .

        لهذا لا عجب أن تكثر أقوال الإنسان وأحاديثه عن الزمان، وأن يتفنن في ذلك، فلا يترك زاوية من زوايا القول عنه إلا جاء بها: يمدح صلته به أحيانًا، وأحيانًا يتذمر من الزمان، والزمان بريء مما يلصقه به ، فهو يسير كما أراد الله له ، في ظل نظام دقيق محكم لا يختل، واللوم أقرب أن يقع على الإِنسان الذي قد يخونه حَظّه، فيلوم الزمن، وقد يغلبه كسله، فيلوم الزمان، وقد يخطئ في تقديره، فيلوم الزمان .

        ومع هذا فلا نعدم أن نجد إنسانًا متبصرًا منصفًا يبرئ الزمان مما يلام عليه، ويحدد من هو الملام، فيجلو الحقيقة، ويضع الأمور في نصابها، ويعدل الكفة بعد أن أمالها من غلبته العاطفة، وتجنبه العقل والمنطق .

        ويأتي الناس بأحكام جائرة أو عادلة يجلسونها على كرسي الزمن، ويكون من هذا منطلقهم في توزيع الأحكام، أو تحديدها، في حين أن لا دخل للزمن فيها، وإنما جاء الأمر نتيجة تفاعل اجتماعي، أو وهم مسيطر، ومن هذا ما يأتي مقارنة بين زمن وزمن، ويعزى التأثير فيه إلى الزمن في حين أن الزمن محور يدور حوله الناس أو عليه، ودورانه لا يختل، ولا يتغير، وما يتغير إلا الناس، نتيجة تفاعل في مجتمع، ديني، أو سياسي، أو اجتماعي أو ثقافي، وإنّ الزمن في هذه الأحوال تبع .

        يأتي زمان ينشط المجتمع، ويزدهر كيانه، وترتقي فئاته، نتيجة دعوة إصلاح نجحت، فيزهر ذلك المجتمع، ثم يدب فيه المشيب، وتبهت الدعوة، ويتقهقر المجتمع، فيأتي جيل يلوم زمانه، ولا لوم على المجتمع، واللوم على الناس، وما طرأ عليهم .

        ثم يأتي مصلح، أو يطرأ على المجتمع ما يجعل أمره يتحسن، فتضيء شمس المجتمع، ويسطع نور بدره، فيحمد الزمن، ولا حمد للزمن وإنما الحمد لله ثم للتغيير الذي طرأ على الناس من علم، أو غيره، أدى إلى تحسن وهكذا يستمر الأمر من زمن إلى زمن .

        يغير المجتمعَ رجلٌ مصلح، فينقله من حال سوء إلى حال حسن؛ أو يغزى هذا المجتمع عسكريًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيا أو أخلاقيًا فينتقل من حالِ حريةٍ إلى حال عبودية، أو من حال ازدهار إلى حال انحطاط، ويبقى الزمن شاهدًا صامتًا، لا ينطق لا ليرد على الذامين له، ولا الحامدين .

        والذي يهمنا عن الزمن هو ما ورد عنه في التراث، مما نجد أنه معبر وطريف، وفيه تناسق أحيانًا، وفيه تنافر أحيانًا، وفيه تلاق، وفيه تضارب، وفيه تقارب وفيه تباعد، ولعل اختيار بعض ما قيل في الزمان مباشرة، أو ما مت له بصلة بعيدة، يعطي صورة متكاملة عن نظرة الناس في ذلك الزمن إلى الزمن :

        «يقول أحد الشعراء:

يعيب الـــرجال زمـــانًا مضى

وما لــــزمانٍ مضى من غِيَـــر

فقل للذي ذم صرف الزمان

ظلمت الزمان فذمّ البشر» (1)

        هذا الشاعر خالف القاعدة، فالعادة أن يمدح الناس الزمان الماضي، ويعيبون الحاضر، فيقولون: فسد الزمن، أو كان زمن آبائنا خيرًا من زمننا، ويتوجدون عليه، وغالبًا ما يردد هذا كبار السن، الذين ينتقدون أبناءهم على تصرف يرونه جديدًا ، مخلاًّ بما تعود عليه مجتمعهم . ولكن الشاعر عندما خالف ركز على دفع التهمة عن الزمان ، وألقى اللوم على الناس، وهذا أمر تبعه الشعراء وأكدوه ، يقول شاعر آخر:

نعيب زماننا والعيب فينا

وما لــزماننــا عيب سوانا

        بل إن هذا الشاعر زاد فجعل الناس هم عيب الزمان ، وليس غيرهم، وهذا تأكيد لظلم الناس لزمان، وتحميله عيوبهم ونقائصهم، وقد شهر بذلك أحد الناس، وهو هذا الشاعر .

        «ويروى عن أنس :

        ما من يوم ولا ليلة ولا شهر ولا سنة، إلا والذي قبله خير منه، سمعت ذلك من نبيكم».(2)

        إذا صح هذا القول عن رسول الله فإنه يضم إلى الأقوال التي تتحدث عن فضل الأيام السابقة على اللاحقة ، ولعل مظاهر التطور هي التي أوحت بأن الماضي خير من الحاضر، وهذا يصدق على عهد رسول الله ثم عهد الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – وما جاء في آخره من فتن ، واختلاف بين الناس، وما دخل المجتمع من تهاون في الدين نتيجة كثرة القادمين من البلدان المفتوحة، ثم جاء العهد الأموي فضعف الدين في بعض جوانبه عند بعض الناس، وفي بعض أركان الخلافة، وكثرت الفتن؛ ومثله العصر العباسي، وما جاء فيه من اختلاف في العقيدة، وما ظهر فيه من فرق، وفتن في الدين، ويصور الحسن البصري – رحمه الله – هذا التدني بقوله:

        «إني أدركت صدر هذه الأمة، ثم طال بي عُمرٌ حتى أدركتكم، فوالذي لا إلـٰـه غيره لهم كانوا أبصر في دينهم بقلوبهم منكم في دنياكم بأبصاركم، ولهم كانوا فيما أحل الله لهم أزهدَ منكم فيما حرّم الله عليكم، ولهم كانوا من حسناتهم ألا تقبل منهم أشدَّ شفقة منكم من سيئاتكم أن تؤخذوا بها».(3)

        ويصف آخرُ تغيّر الزمان بأهله، وتدهور الخير عندهم مقارنة بما كان عليه من سبقهم :

        فيقول أسماء بن عبيد بن مخارق الضبعي، وقد مات في منتصف القرن الثالث الهجري، مصورًا رأيه في أهل زمانه، ومقارنًا لهم بمن سبقهم، ومن عرفهم في أول عمره:

        «أدركنا أقوامًا فجالسناهم، فنفعنا الله بمجالستهم في ديننا ومعايشنا، فأصبحنا اليوم بين ظهراني قوم نجالسهم فَيُنَسُّونا ما سمعنا من أولئك».(4)

        لم يقتصر أسماء بن عبيد في ملاحظته على ما طرأ على الناس تجاه دينهم، ولكنه أيضًا نبه إلى ما يخص المعيشة، فلقد رأى الأسراف في المأكل والمشرب والمركب مما لم يكن معروفًا قبل ذلك، وقد أصبح هذا الجديد عادة متأصلة أنست الأقوال والتعليمات التي ساروا في ضوئها في زمن مضى .

        ويعبر آخر عن هذا المعنى تعبيرًا يأتي من زاوية مختلفة ، ولكنه يصب في الحوض نفسه، ويصيب الهدف نفسه :

        «قال مطرِّف:

        كان الناس في الزمان الأول أفضلهم المسارع في الخير، وإنّ أفضل أهل زمانكم المُثَبِّطِين» (5).

        وعندما يختلف، في زمن من الأزمان، التعامل في الخير بين فئتين: معطية وآخذة، فإن هذا يكون مقبولاً، فقد يكون المعطي في زمن مضى يطمئن إلى من يطلب الإحسان والمساعدة؛ أو من تتبين عليه الحاجة، يكون صادقًا في ما يطلب، وصادقًا فيما يظهر، أما في زمن متأخر فقد فسد الناس، فصاروا يتظاهرون بما ليس فيهم، فيظهرون الحاجة طمعًا وخداعًا، ويتظاهرون بالفقر وهم في غنى، فاستوجب هذا ذاكَ، وتغير الأمر عند الأول بتغيره عند الثاني .

        ولهذا قال عبد الملك بن مروان، الخليفة الأموي، ما قال لبعض رعيته، الذين كانوا يطالبونه بأن يعاملهم معاملة أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – لرعيتهما، فنبههم إلى أنهم هم أنفسهم قد تغيروا ولم يعودوا مثل رعية أبي بكر وعمر فيعاملوا معاملتها، وقد عمّي هذا عليهم حتى اضطر الخليفة أن ينبههم إليه، وأيقظهم من غفلة كانوا فيها؛ وكأنه يقول لهم: إبدؤا بأنفسكم، فكونوا في الطاعة والاستقامة، والالتفات لأمور دينكم ومعاشكم مثل الناس في زمن الخليفتين وستجدون أننا مثلهما، فالطابق الثاني يقوم على الطابق الأسفل، ولا يقوم في الهواء حتى يبنى الطابق الأسفل:

        «قال عبد الملك بن مروان:

        انصفونا يا معشر الرعية، تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر، ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرتهما، نسأل الله أن يعين كلاً على كل» (6).

        ويصف واصف للناس في زمن لاحق ما كان الناس عليه في زمن سابق، ويرسم صورة حسية بديعة لِمَا رأى الفريقين عليه، فيقول أبو مسلم الخولاني، بنبرة تأنيبٍ لجلسائه :

        «كان الناس ورقًا لا شوك فيه، وأنتم اليوم شوك لا ورق فيه» (7).

        وهو وصف لأهل زمانه مغالىً فيه، أوجبه الحنق عليهم، وخيبة أمله فيهم، لما يسيرون عليه من سيرة لا ترضيه، ونهج ينبذه ويرفضه .

        وليس بعيدًا عن هذا في المؤدى العام قول يونس بن ميسرة :

        «لا يأتينا زمان إلا بكينا منه، ولا تولى عنا زمان، إلا بكينا عليه» .

        ومنه قول الشاعر :

«رب يـــوم بكيت منــه فلمّا

صرت في غيره بكيت عليه» (8)

        ولقد خفف الشاعر في البيت الحُكم فلجأ إلى احتمال وقوع ذلك ، فكان قوله أقرب إلى الصواب، وفيه مراعاة لحال الناس ، إن أحسنوا، وصار هذا ديدنهم ، أو أساؤا واتخذوا هذا مظهر حياة. أما القول الذي قبله فقول جازم بحسن الزمن الماضي وسوء اللاحق مقارنة به، ويحمل في طياته مثل القول الذي سبقه حنقًا شديدًا على أهل زمن القائل . ولعل القول يأتي مُرّاً هكذا أحيانًا لا لأن قائله يعتقد هذا الأمر اعتقادًا جازمًا، ولكنه يقوله وفي النية التأنيب والحث على تدارك الأمر، وإيقاف التدهور في نظره. وتحمل الجملة روح الاصلاح المغَطَّى بستار الحنق والغضب، ولكن الجملة في هدفها باسمةٌ مشرقة، ولا تعْني ظاهرها بحذافيره .

        ولبيد في زمنه في الجاهلية رأى زمناً يختلف عن زمن ، وتوجَّد على أهل الزمن الماضي، وصاغ ذلك في أبيات مؤثرة استشهدت بها أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – فقالت ما رواه هشام بن عروة :

        «قاتل الله لبيدًا حيث يقول:

ذهب الـــذين يعــاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

يتحدثون ملاَلـــــــــة ومهانـــــــــة

ويعاب قائلهم وإن لم يَشْغَبِ» (9)

        فكيف لو أدرك زماننا .

        قال هشام بن عروة : أما أنا فلا أقول شيئًا.

        ويضيف أبو حيان التوحيدي في كتابه: «بهجة المجالس» أن ابن عباس قال لما سمع تعليقها:

        «رحم الله لبيدًا، ورحم عائشة، لقد أصبتُ باليمن سهمًا في خزائن عاد كأطول ما يكون من رماحكم هذه ، مريّش مفوق، مكتوب عليه:

فهل لي إلى أجيال هند بذي اللوى

لوى الـــرمل من قبل الممات معـــاد

بلاد بهــا كنـــــا ونحــــــن نحبــــها

إذ النـــاس ناس والبـــــلاد بلاد» (10)

        ويبينّ هذا الشعر عمق الزمن في القدم، ومعه بُعْدَ الشكوى فيه، فالشاعر يلمح إلى أن الناس في الزمن الذي يتشوق إليه، ويتوجد عليه، كانوا ناسًا بما تعنيه هذه الكلمة من الإِنسانية . وإن الزمن كان زمنًا محمودًا ، وزمانه بخلاف ذلك .

        ويأتي من لعله رأى حيفًا من الناس في حق الزمن ، وتهمة ظالمة له ، فأخذ يدافع عنه، ويحمي حقه، ويظهر الحقيقة ، ويلقى اللوم على أهل الزمن لا الزمن ، فيقول :

إن الجديدين في طول اختلافهما

لاينقصان ولكن ينقص الناس(11)

        وهذا قول صادق فالزمن لايتغير: نهار يكر وليل يمر، وأسابيع تنتهي، وأشهر تنقضي، وسنين تجري مجرى السحاب، وإذا كان الزمن يتغير بعد مئات الآلاف من السنين فليس لهذا شاهد من الناس، وما شهدنا إلا بما علمنا، أو علمنا في قرآن أو حديث، وإلا فإنّ علماء الفلك وأمثالهم، نظرياتهم تتطور وتتبدل، وينقض بعضها بعضًا أحيانًا .

        واتهام الزمن بأنه سبب تغير الناس يوحي بأن الإِنسان يحب أن يلقي اللوم على غيره، وفي أمر واسع مثل هذا ليس هناك أقرب، وأدعى للقبول من رمي التهمة، وإلقاء الظنة على الزمن؛ لأن الزمن لا يدافع عن نفسه، وهو قوي يتحمل ما يلقى على عاتقه، ولعله لقوته لا يشعر بأنه ألقي إليه شيء، أما ابن آدم فيجد راحة ومتنفسًا إذا وجد من يلقي عليه اللوم الذي في الحق يجب أن يتحمله هو، إما لأنه من صنع يده إذا كان خللاً في مجتمعه، أو شيبًا وشيخوخة محتمة عليه، في نظام الله – سبحانه وتعالى – للكون . ولو لم يفعل ذلك لضاق صدره بهمٍّ لا تحمله الحبال.

        ويقول الصلتان السعدي في أبيات :

أشاب الصغير وأفنى الكبيـ

ـــر كرّ الغداة ومرّ العشي

إذا ليلة هرّمت يــــــومها

أتى بعد ذلك يـــوم فتي(12)

        فالصلتان يجعل الزمان في عنصريْهِ الليل والنهار هما اللذان أشابا الصغير، وأفنيا الكبير، بدورانهما وتعاقبهما، فهما وسيلة الله – سبحانه وتعالى – على فناء الإِنسان ، وكأنهما مقراض دائب لقصص والقطع لحياة الإِنسان، أو مطحنة تسحق هذه الحياة، برحى لا تني حتى تؤدي ما ألهيت به .

        ومرور الزمن على أمر يري أنه تغيّر من حال إلى حال، من حال لها صفة معينة إلى حال مخالفة لها تمامًا، فما قد يكون غير مقبول في زمن يصبح في زمن لاحق هو المقبول والمطلوب، وقد عبر عن ذلك معاوية بن أبي سفيان بقوله:

        «معروف زماننا منكر زمان قد مضى، ومنكره معروف زمان لم يأت» (13).

        وقيل إن هذا القول أو مثله قاله عدي بن حاتم لمعاوية، ونصه:

        «معروفك الذي تعده اليوم منكرًا معروف زمان لم يأت» (14).

*  *  *

الهوامش :

 

(1)          الكشكول : 2/346 .

(2)          ربيع الأبرار: 1/91 ، 1/557 .

(3)          الإِشراف : 260 .

(4)          الإشراف : 160 .

(5)          الإشراف : 181 .

(6)          سراج الملوك : 348 .

(7)          ربيع الأبرار : 1/398 .

(8)          ربيع الأبرار : 1/91هـ ، 1/558 .

(9)          البخلاء للبغدادي : 74 ، بهجة المجالس : 2/797 .

(10)      بهجة المجالس : 2/798 .

(11)      المحاسن والمساوئ : 456 .

(12)      الحيوان : 3/477 .

(13)      ربيع الأبرار: 1/556 .

(14)      محاضرات الأدباء : 255 .

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالقعدة 1428هـ = نوفمبر – ديسمبر 2007م ، العـدد : 11 ، السنـة : 31.